الخوري للجمهورية: هذا ما كشفته ميزانية المركزي الاخيرة

تظهر أرقام ميزانية مصرف لبنان الاخيرة تراجعاً كبيراً للنقد بالتداول، أي السيولة بالليرة اللبنانية من 83 تريليون ليرة الى 68 تريليون ليرة، لتمثّل فقط ثلث حاجة السوق من متوسط السيولة. في المقابل وبدلاً من ان يتراجع الدولار، فإنه ما زال يحقق مستويات قياسية. فما الاسباب؟ وما كانت تداعيات قرار المركزي الاخير بشراء الليرة من السوق؟

تعكس ميزانية مصرف لبنان نصف الشهرية للفترة الممتدة بين 28 شباط 2023 و15 آذار، والتي صدرت مؤخراً، نتائج تداعيات قرار المصرف المركزي الصادر في الاول من آذار بالتدخل في السوق بائعاً للدولار وشارياً لليرة وفق سعر منصة صيرفة 70 الفاً.

وفي السياق، يشرح الخبير الاقتصادي بيار الخوري انّ الميزانية نصف الشهرية للمصرف المركزي كشفت عن ارتفاع طفيف في الاصول من 442 مليار ليرة الى 443 مليار ليرة، عازياً ذلك الى تقليص المصرف المركزي خلال هذه الفترة النقد بالتداول من 83 تريليون ليرة اي ما يساوي تقريباً حوالى مليار دولار وفقاً لسعر الصرف في السوق السوداء الى 68 تريليون ليرة بما يوازي حوالى 680 مليون دولار وفقاً لسعر السوق السوداء، متراجعة بذلك حوالى 15 الف مليار ليرة اي نحو 200 مليون دولار وفقاً لسعر صيرفة التي اشترى الدولار على اساسه.

تابع: كان يتوقع ان يؤدي تقلّص السيولة بالعملة اللبنانية من السوق الى تراجع في سعر الدولار في السوق السوداء، لكن ما حصل هو العكس تماماً حتى تخطى الدولار الواحد المئة الف ليرة رغم ان المركزي ضخّ خلال الفترة الممتدة من الاول من آذار الى 15 منه نحو 200 مليون دولار في السوق. فلماذا لم يتراجع الدولار؟

ويشرح الخوري ان النقطة الابرز التي يجب التوقف عندها في ارقام ميزانية المركزي هي حركة «النقد بالتداول» لأنه في اقتصاد يعتمد على الكاش، ويغيب اي دور للمصارف فيه، تشكل كل السيولة الموجودة اليوم بالليرة في السوق حجم «النقد بالتداول»، وبدل ان ترتفع مع ارتفاع الدولار ومع الحاجة المتزايدة لليرة بنتيجة الارتفاع اليومي والمتواصل لاسعار السلع، وارتفاع الضرائب والرسوم والدولار الجمركي الى 45 الفاً مؤخّراً تقلّصت، عازياً ذلك الى تدخّل المركزي الاخير شارياً لليرة، بحيث ما عاد حجم الكتلة النقدية او السيولة المتوفرة في السوق يكفي لتلبية الاكلاف المرتفعة المطلوب تسديدها نقداً.

وتابع الخوري: انّ كل السيولة الموجودة اليوم في السوق لا تعادل قيمتها الحقيقية الـ 650 مليون دولار وفقاً لدولار السوق السوداء. في المقابل ومع بداية الأزمة في اواخر العام 2019 كان حجم الكتلة النقدية في السوق حوالى 9000 مليار اي 6 مليارات دولار، وبينما كان يتوقع ان يتقلص حجم السيولة كنتيجة طبيعية لتقلص حجم الاقتصاد الى حوالي الملياري دولار كي تكفي حاجة الناس نلاحظ انها تراجعت الى 650 مليون دولار، اي بما يوازي ثلث الكمية التي كان يجب ان تكون في السوق لتكفي حاجة اللبنانين وتحريك شريان الاقتصاد.

وعن الاسباب، يشرح الخوري ان المركزي ما عاد قادراً على ضخ دولارات لتكبير حجم النقد بالتداول تخوّفاً من انهيار أكبر واسرع بالليرة. والواضح ان المصرف المركزي في مأزق اليوم، اذ انه في السابق كان كلما زاد التضخم عمدَ الى ضخ ليرة لبنانية في السوق، وكانت ترتفع السيولة لتوازي نسبة التضخم، لكن ما حصل مؤخراً ان التضخم استمر بالارتفاع مسجّلاً زيادات شهرية مخيفة، ورغم ذلك عَمد المركزي في تدبيره الاخير الى امتصاص مزيد من السيولة بالليرة لأنه يعلم انّ ثمن ضَخ سيولة بالسوق هذه المرة سيكون باهظاً جداً. الا انّ هذا التدبير أدخلَ الاقتصاد بمأزق، فمن جهة ضَخ السيولة سيسرّع أكثر بانهيار الليرة أما سحبها من السوق فيكربج الاقتصاد. وبالتالي، نحن امام طريق مسدود، والمركزي مُجبر على ضخ مزيد من السيولة في السوق لأن مستوى الاسعار ما عاد يتوافق مع حجم النقد بالتداول الذي هو أصغر رقم اليوم من ضمن بقية البنود الكبرى الواردة في جدول ميزانية المركزي.

ورداً على سؤال، أوضح الخوري ان المواطن لم يشعر بضيقة السيولة لأنه بات يدفع اغلبية مصاريفه بالدولار مباشرة ما يرفع من حجم الدولرة بالاقتصاد، لافتاً الى انّ تدبير المركزي دفع باللبناني الى إخراج دولاراته للدفع، وهذا جزء من مسار الدولرة الشاملة.

وتابع: انّ استمرار قبول الدفع بالليرة اللبنانية في مرافق الدولة يؤكد انّ هذه العملة ورغم انهيارها لا تزال عملة اساسية بالتداول. وهذا الأمر يجعلنا ايضا امام خطرين: الاول: دولرة تسويات المدفوعات كنتيجة طبيعية لتقلص حجم الكتلة النقدية. والثاني: انّ اي تكبير للكتلة النقدية يجعلنا امام انهيار اكبر واسرع لليرة.

اما كيف يرتفع الدولار في السوق السوداء في مقابل تقلّص الكتلة النقدية في السوق؟ يؤكد الخوري انّ هذا اكبر دليل على ان سعر الدولار هو في جزء منه لعبة سياسية للمسيطرين على السوق الذين يستعملون السوق كورقة ضغط سياسية.

الخوري لنداء الوطن: لولا الاقتصاد الاسود لما كان الشعب غارقاً بالصمت المريب

في بلد منهار مالياً واقتصادياً واجتماعياً، وعاجز عن انتخاب رئيس للجمهورية وحكومة فعالة تتفق على خطة للنهوض وتطبيق الاصلاحات، تصبح النتيجة الفوضى على كافة الاصعدة: الامنية، القضائية، الادارية، المالية، والتجارية… وعندما تتمتع البلاد بحكومات ضعيفة وتنتشر فيها ظواهر الفساد وغياب العدالة الاجتماعية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتفاوت الكبير بين مداخيل المواطنين، تخلو الساحة تماماً امام الانشطة غير الشرعية وغير القانونية او غير المصرح عنها . كيف لا؟ والدولة منهكة في الجري وراء صعود الدولار وكيفية تعديل الرسوم والضرائب بالليرة لمواكبة ارتفاعه، بدلاً من وضع الخطط الجدية للجم انهيار عملتها واعادة هيكلة مؤسساتها!

إقتصاد لا يمكن إحصاؤه

عندما تجتمع تلك العوامل، وهي في ازدياد متواصل في لبنان منذ العام 2019، لا يمكن إلا ان ينمو الاقتصاد الاسود على حساب الاقتصاد الشرعي. هو اقتصاد الظلّ الذي تمارس فيه المؤسسات والافراد أنشطة اقتصادية لا يتم إحصاؤُها بشكل رسمي، ولا تُعرف مكوّناتها الفعلية ولا تدخل في حسابات الناتج القومي الإجمالي، ويترعرع في هذا الاقتصاد المشوه التهرب من دفع الضرائب والرسوم وجني أرباح كبيرة بعيداً عن رقابة الحكومة، ويضيف بالنتيجة، أرقاماً متفاوتة على الناتج الإجمالي المحلي للبلدان بنسبة وصلت وفقا لتقديرات المحللين الى اكثر من 50 الى 60%، علماً انه في بلدان مثل الولايات المتحدة يضيف ما بين 5 الى 10 % الى الناتج المحلي وفي روسيا حوالى 50% وفي ايطاليا ما يقارب 30%.

هناك نوعان

في الاقتصاد الاسود نوعان من الانشطة الرئيسية:

– أنشطة قانونية لكن بشكل غير شرعي مثل التجارة في السلع الغذائية والألبسة والمعدات وغيرها ولكن من خلال مخالفة القانون كالتهرب الضريبي، بحيث لا يتم تسجيل التعاملات فيها قانونياً لتجنُّب احتساب الأرباح الحقيقية للشركة، أو إدخالها للبلاد عبر التهريب من أجل تجنُّب دفع الرسوم الجمركية، أو حتى الغش والتلاعب بالمواصفات، مما يجعل الموادَّ والسلع ذات قيمة اعلى من قيمتها الحقيقية.

– أنشطة غير قانونية: مثل تجارة المخدرات أو الأسلحة أو الاتجار بالبشر أو القيام بعمليات تصنيع مخالفة للقانون كتصنيع التبغ أو الكحول أو الحبوب المخدرة… بالاضافة الى عمليات تبييض الاموال.

من 25% إلى 60%

ما يفسّر صمود جزء لا يستهان به من المجتمع اللبناني بوجه الانهيار المالي هو نمو الاقتصاد الاسود من نسبة 25% (تقديرات غير رسمية) من اجمالي حجم الاقتصاد اللبناني في 2019، الى حوالى 60 في المئة من حجم الاقتصاد اليوم، وهو الذي يدرّ الدولارات في السوق بطريقة غير شرعية وخارج القنوات الرسمية ولا يمكن تسجيله ضمن أرقام الناتج المحلي الاجمالي الرسمية.

وإذا كانت تقديرات الناتج المحلي الاجمالي تشير الى تراجعه من 53 مليار دولار في 2019 الى حوالى 14 مليار في 2023، فان التقديرات لحجم الناتج المحلي الاجمالي الفعلي في لبنان مع احتساب حجم الاقتصاد الاسود، تقدّر بما بين 24 و35 مليار دولار!

الإستيراد والمصارف والخزينة

كما يجمع خبراء اقتصاديون على ان حجم الناتج المحلي الاجمالي في لبنان المقدّر بحوالى 14 مليار دولار في 2023، غير واقعي نسبة الى حجم الاستيراد البالغ 19 مليار دولار، مما يؤكد اوّلاً ازدهار قنوات التهريب الى الخارج وثانياً نمو اقتصاد الظلّ.

ومع انهيار القطاع المصرفي وفقدان الثقة به، تراجعت المعاملات التجارية عبر البنوك وتراجعت التحويلات المالية عبر القنوات الرسمية واصبح احصاء حجم التدفقات المالية او المعاملات التجارية بشكل دقيق أمراً مستحيلاً نظراً الى تحوّل الاقتصاد الى اقتصاد نقدي.

وبالتالي، مهما سعت وعملت الحكومة لزيادة ايرادات الخزينة مواكبة لارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، إن عبر رفع الدولار الجمركي وغيره من الاجراءات، فان فرض سلطتها وضرائبها على 40% فقط من الاقتصاد (حجم المؤسسات الشرعية) لن يؤمّن لها الايرادات الكافية لتمويل دولة مفلسة.

الخوري للبنان ٢٤: المقارنة مستحيلة بين ازمة بنوك امريكا وتلك اللبنانية

عاصفة إفلاس ثلاثة مصارف أميركية في أسبوع واحد، شكّلت الحدث المالي الأبرز على الخارطة العالميّة، لاسيّما أنّ إفلاس Silicon Valley Bank يعدّ أكبر انهيار لبنك أميركي منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. بلغت أصول المصرف 209 مليار دولار، ولديه ودائع بحوالي 175.4 مليار دولار، ومع ذلك انهار بغضون ساعات. ما الذي حدث؟ وهل النظام المصرفي الأميركي مهدّد برمّته، أمّ أنّ تعامل الإدارة الأميركيّة لجم مسار الإنهيار المصرفي؟ وأيّ تشابه مع الأزمة المصرفيّة اللبنانية لجهة توظيف أموال المودعين في الدين العام الحكومي؟
لا للمقارنة بين ما حصل في لبنان والولايات المتحدة!
وقْعُ الخبر المصرفي الأميركي لبنانيًّا بدا مختلفًا، ليس لأنّ اللبنانيين يعيشون أزمة احتجاز ودائعهم في المصارف منذ العام 2019 فحسب، بل من باب التشابه بين Silicon Valley Bank والمصارف اللبنانية، لجهة توظيف الجزء الأكبر من الودائع في سندات الخزينة، أي في الدين العام. وإن كان الأمر بمثابة خطيئة ارتكبتها المصارف اللبنانية، لا يعدّ الأمر كذلك في بلد كالولايات المتحدة الأميركية، وفق  مقاربة الخبير الإقتصادي البروفسور بيار الخوري في حديث لـ “لبنان 24″  والمقارنة لا تجوز هنا “لأنّ التوظيف في الولايات المتحدة هو توظيف في وسيلة آمنة، فالمقترض هو حكومة الولايات المتحدة التي تعتمد سياسات كفوءة في إدارة الدين العام وفي إدارة الموازنة، والتي تطبع الدولار. أمّا في لبنان فلجأت المصارف إلى حصر كلّ أموالها في إقراض الدولة، طمعًا بتحقيق الأرباح، وتجاهلت المخاطر المتأتّية عن سوء الإدارة الحكومية، التي كانت المصارف تعرفها حقّ المعرفة، وتشير إليها في تقاريرها الدوريّة، لجهة عدم التعامل مع المال العام بطريقة رشيدة، وهذا ما لا ينطبق على الحكومة الأميركية. بالتالي مشكلتنا في لبنان أبعد من تبعات رفع الفائدة، بل في غياب الإدارة الرشيدة، التي طبعت عمل  الإدارة المصرفيّة أيضًا”.

العلاقة بين رفع الفائدة وإفلاس بنوك أميركية

رَفع الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة سبع مرات خلال العام الماضى للجم التضخم، والمصرف كونه المُقرض الرئيسي للشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا في الولايات المتحدة منذ الثمانينات، حاز على ودائع كبيرة، أثناء وبعد جائحة كورونا، استثمر الجزء الأكبر منها في السندات الحكومية، بفائدة ثابتة، شأنه شأن مؤسسات عديدة في الولايات المتحدة. لكنّه تكبّد خسائر دفترية بعد ارتفاع أسعار الفائدة، بحيث خسر ما يقارب 15 مليار دولار، وبفعل نقص في السيولة، قام بطرح أسهم جديدة للشراء، بهدف جني 2.5 مليار دولار، ما دفع عملاء البنك إلى سحب ودائعهم. وفق مقاربة الخوري “هناك ما يُدعى Crowding out effect، فعندما ترفع الدولة الفوائد، تنافس القطاع الخاص على القروض، مما يجذب المستثمرين للإكتتاب بسندات الخزينة، فيخسر القطاع أموالًا أو مستثمرين يذهبون إلى سوق السندات، ويضطر المصرف لمنح المودعين فوائد أعلى، من هنا علاقة الأزمة بسياسة رفع الفائدة”. يلفت الخوري إلى أنّ المسار التصاعدي للفائدة من شأنه أن يوقع كل الشركات في حال بقي مستمرًا، ويقع أولًا الأضعف في السوق “في حالة Silicon Valley Bank تضافرت كل الأسباب كي لا تذهب الأموال لتمويل الشركات، والمصرف لم يقم بإدارة المخاطر الناجمة عن ارتفاع أسعار الفائدة، وأخطأ بعدم تسييل محفظته في وقت مبكر، عندما بدأت الفوائد بالتصاعد، ووصل إلى مرحلة لم يعد قادرًا على التسييل، وإلا اختل التوازن بين الأصول والقروض. كما أنّ المصرف يوظّف أمواله في توظيفات طويلة الأمد بينما الودائع لديه قصيرة الأمد”.
احتواء الأزمة؟
سارعت السلطات الأميركية إلى ترتيب خطّة إنقاذية، لتهدئة المخاوف وتعزيز ثقة المودعين. وضعت مؤسسة ضمان الودائع الفيدراليّة يدها على المصارف، وبات إفلاس هذه البنوك لا يعني أن أموال المودعين قد ذهبت، بل على العكس تمّ تأكيد تغطية الودائع. وبعد ساعات قليلة على الإفلاس خرجت إدارة الرئيس جو بايدن بخطة لدعم القطاع المصرفي، وتمّ وضع خطة تمويل طارئة لضمان سيولة كافية في النظام المصرفي. التعامل الرسمي الأميركي مع الأزمة وفق الخوري يخالف المناهج المعتمدة عادةً “شهدنا إجراءًا أميركيًّا خارجًا عن كلّ معايير إدارة الأزمات المالية في الولايات المتحدة، وذلك خوفًا من تكرار السيناريو نفسه في المصارف الكبيرة. يبدو أنّ الضغط في الإقتصاد لا يسمح بأقل من ذلك الإجراء، ولو أنّه غير ممكن على المدى الطويل في التعامل مع مصارف أخرى فيما لو واجهت المصير نفسه، إذ لديها ودائع بقيمة 14.5 تريليون دولار، أي ما يعادل نصف الدين العام الأميركي”.
الارتفاعات الحادة في أسعار الفائدة ودورها في إفلاس ثلاث مصارف أميركية، قد تجعل مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يفكّرون في إعادة تقدير زيادات أسعار الفائدة أو في خفض المعدل، في اجتماعهم المقرر في 21 و22 من آذار الحالي، لتجنب إفلاس المزيد من البنوك الأميركية.